الجمعة، 28 نوفمبر 2025

Published نوفمبر 28, 2025 by with 0 comment

"حين يختلط المنبر بالسلطة: جدل تسييس الدين وتديين السياسة في العالم العربي"

 


"حين يختلط المنبر بالسلطة: جدل تسييس الدين وتديين السياسة في العالم العربي"


ظلّ سؤال العلاقة بين الدين والسياسة من أكثر الأسئلة حساسية في التاريخ الإسلامي، وتحوّل في العصر الحديث إلى محور صراع بين تيارات إسلامية تسعى لإعادة الدين إلى الحكم، وبين أنظمة سياسية تخشى من هذا الدمج وتراه تهديدًا لمستقبل الدولة، وبين شعوب منقسمة بين الأمل والقلق.


فهل نجح أي تيار إسلامي في مزج السياسة بالدين؟ وما أثر ذلك على المجتمعات؟ وهل هذا الدمج صحي أم مضر للأنظمة العربية؟ ومن أول من بدأ الفكرة تاريخيًا؟


هذا المقال يحاول فتح النقاش وتقديم رؤية واسعة مبنية على التجارب والوقائع وآراء العلماء.



1. من أين بدأت فكرة “السياسة الدينية”؟

تاريخيًا، بدأ دمج السياسة بالدين منذ قيام الخلافة الإسلامية نفسها بعد وفاة الرسول ﷺ، حيث نشأت الدولة الإسلامية على أساس ديني–سياسي واحد. كان الخلفاء الأوائل يمارسون الحكم والقيادة الدينية معاً، ثم ورثت الأمويون والعباسيون هذا النموذج مع اختلافات كبيرة.


لكن الدعوة لدمج الدين بالسياسة بصورتها “الحركية الحديثة” ظهرت في القرن العشرين، خاصة مع:

1. حسن البنا – مصر (1928)

مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، وهو أول من أعاد صياغة الإسلام في شكل مشروع سياسي كامل في العصر الحديث، داعيًا إلى:

* إقامة دولة إسلامية حديثة

* رفض القومية والدولة الوطنية

* توحيد الأمة

* تحرير الحكم من الهيمنة الأجنبية

تأثر المشروع حينها بالاستعمار البريطاني وسقوط الخلافة العثمانية عام 1924، ما ولد شعورًا بأن الأمة “بلا مرجعية سياسية”.


2. المودودي – الهند وباكستان

مؤسس الجماعة الإسلامية، وواحد من أهم منظّري “الحاكمية”، الذي قدّم صياغة فكرية عميقة لفكرة “الدولة الإسلامية”، وكان تأثيره كبيراً على الحركات الإسلامية حول العالم.


3. الخميني – إيران (1979)

طرح مفهوم ولاية الفقيه*بعد الثورة الإيرانية، ليصبح الدين رسميًا في رأس السلطة.

هذا شكل أحد أهم تجارب دمج الدين بالسياسة بشكل شامل في العصر الحديث.


2. هل نجحت تيارات الإسلام السياسي في دمج الدين بالسياسة؟**


تجارب تُعد “شبه ناجحة”

هناك تجارب استطاعت الوصول للحكم، لكنها واجهت تحديات كبيرة:


1. إيران – نموذج “نجاح بسلطة قوية”

* دمج كامل بين الدين والسياسة.

* دولة مركزية قوية، لكن مع مواجهة عزلة دولية.

* نجاح في تأسيس نظام مستقر، لكن مع تراجع اقتصادي وسياسي داخلي.


2. تركيا – حزب العدالة والتنمية (2002–الآن)

ليس إسلامياً صريحاً، لكنه يستخدم الهوية الإسلامية بشكل سياسي.

– حقق نموًا اقتصاديًا كبيرًا

– منح الحريات الدينية

– لكن انتهى بنزعة سلطوية وتوترات سياسية داخلية


3. تونس – حركة النهضة

تجربة ديمقراطية سليمة لكنها لم تصمد أمام تعقيدات المشهد السياسي والاقتصادي.


4. السودان – الحركة الإسلامية (1989–2019)

طبقت الشريعة، لكن التجربة واجهت عزلة دولية وأزمات اقتصادية وحروب داخلية، وانتهت بسقوط النظام.


تجارب “لم تنجح” في الحكم

* الإخوان المسلمين في مصر (2012–2013)

* الإسلاميون في الجزائر (1992)

* الإسلاميون في سوريا قبل 1982

* حماس في غزة تحت حصار خانق


السبب المشترك:

*احتكاك فكر ديني–ثوري بأنظمة عسكرية أو سياسية لا تقبل المشاركة.



3. لماذا تخشى الأنظمة العربية الإسلام السياسي؟

هناك عدة أسباب متداخلة:

1. النزعة الشمولية لبعض التيارات

العديد من الحركات الإسلامية ترى أنها تمثل “الحق المطلق”، ما يجعلها أقل مرونة في المشاركة السياسية.


2. مخاوف من تعدد الولاءات

الدولة العربية تريد ولاءً سياسيًا واحدًا، بينما الحركات الدينية قد ترى أن ولاءها العقائدي مقدّم على السياسي.


3. تجارب سابقة انتهت بصدام

مثل مصر وسوريا والسودان والجزائر.


4. الكتلة الشعبية الضخمة

الحركات الإسلامية تمتلك قواعد جماهيرية واسعة، ما يجعل الأنظمة ترى فيها تهديدًا استراتيجيًا.


5. تدخل خارجي

القوى الدولية تخشى صعود نماذج إسلامية سياسية قد تغيّر التوازنات الإقليمية.



4. أثر دمج السياسة بالدين على الدول والمجتمعات

إيجابيات محتملة

* تعزيز الأخلاق العامة

* مقاومة الفساد

* تقوية الهوية الثقافية والدينية

* زيادة مشاركة الناس في الشأن العام


لكن السلبيات كانت أكبر في أغلب التجارب

* صراعات أيديولوجية داخل المجتمع

* تقسيم ديني–سياسي يضعف الدولة

* تدخل العلماء في القرارات السياسية

* استغلال الدين لتبرير القمع

* تفكك المؤسسات المدنية

* صدام بين الأنظمة والتيارات الدينية

* حروب أهلية في بعض الحالات



5. آراء علماء ودعاة حول دمج الدين بالسياسة

علماء رفضوا التسييس

*ابن باز وابن عثيمين (السعودية)

كانوا يحذرون من الحركات الحزبية والدينية التي تدخل في السياسة وتؤدي إلى الفتن.


*الألباني

كان يرى أن “العمل الحزبي السياسي باسم الإسلام” باب للاقتتال وسبب في تضييع الدعوة.



علماء أيدوا المشاركة السياسية

*يوسف القرضاوي

دافع بشدة عن مشاركة الإسلاميين في الحكم، ورأى أن “الإسلام دين ودولة”.


*محمد الغزالي

كان يرى أن غياب الإسلاميين عن السياسة سمح للفساد بالانتشار.


*حسن البنا

اعتبر أن “الإسلام شامل لكل مناحي الحياة” بما فيها الحكم.



6. الأسباب الحالية لتعثر دمج الدين بالسياسة

* بنية الدولة الحديثة لا تقبل سلطة دينية عليا.

* المجتمعات أصبحت أكثر تنوعًا وغير قابلة لحكم أيديولوجي.

* الوعي الشعبي تغيّر ولم يعد يقبل الخطاب الديني التقليدي.

* الإعلام الجديد كشف أخطاء التيارات الإسلامية.

* التجارب الفاشلة السابقة جعلت الناس أكثر حذرًا.



7. هل دمج السياسة بالدين خيار صحي اليوم؟

العديد من الباحثين يرون أن:

*السياسة تحتاج إلى مؤسسات،

*والدين يحتاج إلى أخلاق وروحانية،

* ودمج الاثنين يؤدي إلى تسييس الدين أو تديين السياسة، وكلاهما له عواقب خطيرة.


أما النموذج الذي يراه البعض مناسبًا هو:

*“دولة مدنية بقيم إسلامية”


وليست:


* دولة دينية

  ولا

* دولة علمانية صِرفةد

بل دولة تستلهم القيم الأخلاقية دون إقامة حكم ديني شمولي.



*الخلاصة :

دمج الدين بالسياسة لم ينجح في أغلب التجارب الحديثة، ليس لأن الدين لا يصلح، بل لأن السياسة متقلبة، والدين ثابت، وعندما تلتبس الثوابت بالمتغيرات، يحدث الصدام والانقسام.

والخوف من الإسلام السياسي ليس بسبب الدين نفسه، بل بسبب:

* التجارب الفاشلة

* الصدام مع الأنظمة

* غياب النموذج الناجح

* وانقسام الحركات الإسلامية بين منهج دعوي وآخر ثوري


ويبقى السؤال مفتوحاً:

هل يمكن للعالم العربي أن يصنع نموذجاً جديداً يجمع بين القيم الدينية والاستقرار السياسي، دون صراع أو تهميش؟

    email this

0 comments:

إرسال تعليق

تعليقاتكم وملاحظاتكم تسرنا