الفتاوى المعاصرة: بين ثوابت الدين ومتغيرات الواقع
يشهد المشهد الديني المعاصر ظاهرة ملفتة تتمثل في فتاوى تثير الجدل، يصدرها أحياناً شخصيات تُحسب على العلم وتنتسب لمؤسسات إسلامية عريقة. هذا الأمر يطرح تساؤلاً مشروعاً حول منهجية إصدار الفتوى في عصرنا.
هيبة الفتوى بين الماضي والحاضر
لم يكن التصدي للفتوى في العصور الماضية أمراً هيناً. كان المفتي يراجع ويتردد كثيراً قبل إطلاق حكم شرعي، لعلمه بمدى تأثير كلمته، ومسؤوليته أمام الله، ومحاسبة العلماء له إن كان في قوله مخالفة أو ما قد يحدث فتنة بين المسلمين.
نحن هنا لا نهاجم العلماء، فلهم كل التقدير والاحترام، ولكن ما نراه من تساهل ملحوظ في أمور تمس صلب الدين يجبرنا على التساؤل والتعبير عن هذا القلق. إن الفطرة السليمة والعقل البسيط يرفضان بعض ما يُطرح، دون الحاجة للتخصص العميق في العلوم الشرعية.
ثوابت راسخة وفتاوى متغيرة
لقد عاصرنا جيلاً من العلماء الثقات الذين رحلوا وبقي علمهم، فكانت دروسهم وفتاواهم واجتهاهاداتهم صافية، مستمدة من الكتاب والسنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَرَكْتُكُمْ عَلَى المَحجّةُ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا إِلاَّ هَالِكٌ". وحتى إن وُجد بينهم خلاف، كان مبيناً بأصوله العلمية الواضحة.
لكن ما نشهده اليوم، خاصة مع انتشار الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، هو جرأة من بعض المنتسبين للعلم على معارضة نصوص وأحكام شرعية واضحة، وطرح آراء صادمة على الهواء مباشرة، مما يثير البلبلة والفتنة.
مثال على التناقض: فتوى تهنئة غير المسلمين
من الأمثلة الصارخة على هذا التغير، هو موقف بعض الدعاة من مسألة "تهنئة أصحاب الديانات الأخرى بأعيادهم".
في الماضي: كان البعض يحذر من هذا الأمر بشدة ويعتبره من المحاذير الشرعية.
حديثاً: نجد الشخص نفسه يخفف من لهجته.
اليوم: قد يخرج ليجيز الأمر بلا تحفظ.
هذا التناقض العجيب يطرح أسئلة ملحة:
أليس الثبات على مبادئ الدين من أصوله؟
هل أصبحت الفتوى تتغير بتغير الزمن والعلاقات السياسية؟
هل هناك ضغوط خفية تُمارس لتغيير هذه الأحكام؟
أم أننا أمام منهج فقهي جديد يعيد تقييم الأمور بناءً على "فقه الواقع"؟
الحاجة إلى مراجعة وتصدي
إن هذه الظاهرة تستدعي وقفة جادة. وقد أشار إلى هذا الخطر عدد من الدعاة، مثلما جاء في حديث للداعية البحريني الشيخ حسن الحسيني حول "الفتاوى المعاصرة وتطورها"، حيث انتقد بأسلوبه الخاص غرابة بعض ما يُطرح.
إن مثل هذه الفتاوى المتغيرة تستحق التصدي لها، خاصة في عصر السرعة الذي تنتشر فيه الكلمة في ثوانٍ. نحن بحاجة لإعادة الهيبة لمنبر الفتوى، والتأكيد على أن الدين ليس خاضعاً للأهواء أو الضغوط، بل هو منهج واضح المعالم، يحتاج لمن يبلغه بأمانة وعلم.