
الماسونية: بين الحقيقة التاريخية والأسطورة الشائعة
المقدمة
الماسونية (Freemasonry) واحدة من أكثر المنظمات التي أثارت الجدل عبر القرون. فهي خليط بين جمعية أخوية ذات طابع رمزي وفلسفي، وبين سمعة تآمرية تضخّمت في المخيال الشعبي العالمي. يصعب الحديث عنها دون المرور على تاريخ طويل من التنظيمات، التشعبات الفكرية، المحافل، والاتهامات، فضلاً عن دورها الملتبس في السياسة والمجتمع.
هذا المقال يقدّم أعمق قراءة ممكنة بين المعلومة الأكاديمية الموثقة والأساطير الشائعة، ليُظهر الصورة الكاملة بعيدًا عن التهويل أو التبسيط.
أولاً: ما هي الماسونية؟
الماسونية تنظيم أخوي (Fraternal Organization) نشأ في أوائل القرن الثامن عشر في أوروبا، تحديدًا في بريطانيا.
تقوم فكرتها على:
الرمزية: البناء، الحجارة، المحافل — باعتبارها رموزًا لبناء الإنسان.
الأخوة: مساعدة الأعضاء بعضهم.
الأخلاق: التزام مبادئ عامة مثل الصدق، الإحسان، الحرية.
الفكر التنويري: تقديس العقل، المعرفة، التسامح الديني.
الماسونية ليست دينًا ولا طائفة، بل جمعية تستلهم لغة الرموز.
ثانيًا: كيف نشأت؟
ظهرت من نقابات البنّائين الحرفيين في العصور الوسطى، ثم تطورت لتضم نخبًا مثقفة من غير البنّائين عبر ما سُمّي بـ “الماسونية الرمزية".
أول محفل رسمي:
محفل لندن الكبير 1717م — ويعتبر بداية التنظيم الحديث.
ثالثًا: هرمية التنظيم (الدرجات والمستويات)
تتكون الماسونية من ثلاث درجات أساسية:
1. المبتدئ (Entered Apprentice)
2. الزميل (Fellow Craft)
3. الخبير أو الماستر (Master Mason)
وتوجد بعد ذلك نظم مختلفة تمنح درجات إضافية — أشهرها:
الطقس الاسكتلندي (حتى الدرجة 33)
الطقس اليوركي
لكن المهم:
هذه الدرجات رمزية وتعليمية، وليس لها "سلطة سياسية" كما يُتصوّر شعبيًا.
رابعًا: من يقود الماسونية؟ هل لها “رأس عالمي”؟
من الحقائق المهمة:
لا يوجد “قائد عالمي واحد” للماسونية.
المسألة لا تشبه الفاتيكان مثلًا.
بل:
كل دولة لديها “محفل كبير Grand Lodge” مستقل.
لا يوجد ترابط تنظيمي عالمي ملزم.
ما يُسمى “المحفل الأعظم” مجرد جهة تنظيمية داخل حدود دولة واحدة.
بالتالي:
> الماسونية شبكة محافل مستقلة، لا حكومة مركزية فوقها.
الأسطورة التي تقول بوجود مجلس عالمي يدير العالم لا تستند إلى وثائق.
خامسًا: الأماكن والمقرات
ليس لها مقر عالمي. لكن أشهر المحافل الكبرى:
محفل إنكلترا الأعظم — لندن
محفل اسكتلندا الأعظم — إدنبرة
محفل فرنسا الأعظم
محفل أميركا الشمالية — أقوى محفل من حيث العدد
مبانيهم عادة تسمى "Lodge" أو "Grand Lodge" وتوجد في أغلب المدن الكبرى في الغرب.
سادسًا: الطقوس والرموز
طقوسهم رمزية وتمثيلية وليست دينية، ومن أشهر الرموز:
الفرجار والزاوية
العين التي ترى كل شيء
النجمة السداسية (عند بعض الفروع، وليس كلها)
أما الطقوس فهي:
مراسم ترقية الدرجات الثلاث
دخول العضو الجديد
قسم الالتزام بالسرية
طقوس محاضرات تعليمية حول الأخلاق، البناء الرمزي، الحكمة
وهي طقوس مسرحية غالبًا، مستوحاة من قصص بناء هيكل سليمان وفق روايتهم الرمزية.
سابعًا: طريقة العمل وآليات التأثير
رغم الصورة الشائعة، فإن الماسونية ليست منظمة سياسية رسمية، لكنها تعمل عبر:
بناء شبكات علاقات بين أعضاء من الطبقات العليا
التأثير الاجتماعي من خلال الجمعيات الخيرية
صعود الأعضاء لمناصب مؤثرة عبر شبكة واسعة من العلاقات
تبادل الدعم والمصالح
ليس بالضرورة أن تكون “أجندة سياسية” موحدة، لكنها تشبه شبكات النخب التي تعمل بالتأثير غير المباشر.
---
ثامنًا: مشاهير كان لهم انتماء ماسوني (مؤكد تاريخيًا)
(مع الإشارة أن الانضمام لم يكن وقتها مثيرًا للجدل)
من الغرب:
جورج واشنطن
بنجامين فرانكلين
وولفغانغ موزارت
مارك توين
وينستون تشرشل
أوسكار وايلد
تيودور روزفلت
من العالم العربي (توثيق تاريخي لا شائعات):
جمال الدين الأفغاني (انتمى في مصر فترة قصيرة)
محمد عبده (لفترة محدودة ثم ترك)
بعض شخصيات النهضة العربية في القرن 19
بعد الثلاثينيات تقريبًا اختفى النشاط الماسوني من العالم العربي بسبب قرارات المنع الحكومية.
تاسعًا: هل يوجد مسلمون داخل الماسونية اليوم؟
نعم، بشكل فردي، خصوصًا في:
تركيا
دول البلقان
بعض الدول الأوروبية
الجاليات المسلمة في أمريكا
لكن لا توجد “كتلة إسلامية ماسونية”.
عاشرًا: هل للماسونية أجندة خاصة؟
من المهم التفريق بين:
1. الأجندة الرسمية:
تعزيز الأخوة البشرية
فصل الدين عن العمل الأخوي
دعم حرية المعتقد
دعم العمل الخيري
تشجيع التفكير الحر
2. الاتهامات الشائعة (غير المثبتة):
السيطرة على الاقتصاد العالمي
إدارة الحكومات
نشر الإلحاد
التحكم بالإعلام العالمي
إقامة “نظام عالمي جديد”
لا توجد وثائق تاريخية تؤكد هذه الاتهامات، لكنها تنتشر بسبب:
طابع السرية
الرموز الغامضة
قوة الأعضاء في بعض المجتمعات
التشابكات مع عصور الاستعمار الأوروبي
أعمال أدبية وفنية ضخمة غذّت الأسطورة (دان براون وغيره)
الحادي عشر: الماسونية في العالم العربي والإسلامي
الحضور التاريخي
دخلت الماسونية إلى:
مصر
الشام
العراق
المغرب العربي
تركيا
وذلك في القرن 19 بعد دخول الجاليات الأوروبية.
وكانت آنذاك:
جمعية ثقافية
ذات طابع حداثي
تحظى باهتمام النخب والضباط والكتّاب
أسباب اختفائها لاحقًا:
الربط بينها وبين الاستعمار
انتشار نظريات المؤامرة
قوانين الحظر
الأنظمة القومية التي اعتبرتها تهديدًا
صعود التيارات الدينية التي رأت فيها بديلًا فكريًا خطيرًا
اليوم، لا يوجد نشاط ماسوني معلن في أغلب الدول العربية.
الثاني عشر: هل للماسونية دور في السياسة العالمية؟
الواقع:
تأثيرها غير مباشر، عبر شبكات علاقات بين أعضاء مؤثرين.
لا توجد “سلطة سياسية” تتخذ قرارات باسم الماسونية.
تأثيرها الأكبر تاريخيًا كان في القرن 18–19 مع صعود فكر التنوير والليبرالية.
المبالغات:
التحكّم بالدول
إدارة الثورات
صناعة رؤساء الدول
قيادة النظام العالمي
ارتباطها بالصهيونية
هذه تعتمد على سرديات شعبية وليس وثائق.
الخلاصة العميقة
الماسونية كتنظيم حقيقية وموجودة، لكنها:
ليست حكومة خفية
ليست دينًا
ليست شبكة سرية تحكم العالم
ليست كيانًا موحدًا عالميًا
تأثيرها أقل بكثير مما تُصوّره الخرافات
هي شبكة اجتماعية–رمزية–أخوية، لعبت دورًا في لحظة تاريخية مرتبطة بالتنوير الأوروبي، ثم تراجعت أهميتها اليوم، مع بقاء هالة من الغموض التي غذّت قصصًا وأساطير حول قوتها.
0 comments:
إرسال تعليق
تعليقاتكم وملاحظاتكم تسرنا