تحديات التطبيع: هل يمكن للمصالح الاقتصادية تجاوز التعقيدات الجيوسياسية والتاريخية؟
مقدمة: عصر التقارب تحت المجهر
شهدت الأعوام الماضية دخول العديد من الدول العربية في مرحلة جديدة من العلاقات مع إسرائيل، حيث تحول التبادل التجاري والزيارات المتبادلة والسياحة إلى أمر علني وغير مستغرب. وبغض النظر عن التقييمات المختلفة لهذا التطور الدبلوماسي، يبقى التطبيع في النهاية شأناً سيادياً لهذه الدول، وتجربة تخضع للتحليل والمتابعة لمعرفة مدى تأثيرها الفعلي على المنطقة.
لقد بدأت الوفود السياحية ورجال الأعمال الإسرائيليون بزيارة هذه الدول، وتوطدت العلاقات بشكل متسارع. ولكن بعيداً عن البروتوكولات الرسمية، تبرز تساؤلات جوهرية حول قدرة هذا التقارب السياسي والاقتصادي على تجاوز المشاكل الجيوسياسية العميقة والجراح التاريخية.
تباين الرؤى: السياسة الرسمية والواقع على الأرض
من أهم التحديات التي تواجه مسار التطبيع هو التناقض بين لغة التعاون الاقتصادي والموقف الميداني. فبينما يتم الحديث عن فتح صفحات جديدة ونشر أجواء من التسامح، تستمر قضايا التوسع والاستيطان التي تضرب بعرض الحائط العديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية.
هذا التباين يضع عبئاً كبيراً على أي محاولة لبناء الثقة طويلة الأمد. إن استمرار التوترات المرتبطة بقضايا الأمن، وحماية المقدسات، وحقوق الشعب الفلسطيني، يغذي شعوراً عاماً بعدم الاطمئنان، ويثبت أن التغير في السياسات العليا لم يتبعه تحول موازٍ في جوهر النزاع القائم على الأرض والعدالة التاريخية.
حوادث فردية وتساؤلات حول الخلفية الثقافية
في سياق الزيارات والسياحة، تم تداول تقارير عن وقوع بعض الحوادث الفردية التي تتعلق بمخالفات أمنية أو عمليات سرقة في فنادق ومطارات بعض الدول المطبّعة.
على الرغم من أن هذه التصرفات تبقى أفعالاً فردية لا يمكن تعميمها على مجتمع كامل، إلا أنها تثير تساؤلات هامة:
مدى جدية التقارب: هل هذه الحوادث مؤشر على غياب الاحترام للقوانين والأعراف في المجتمعات المضيفة؟
خلفية الانفصال: هل يعكس هذا النوع من السلوكيات الفردية فجوة ثقافية أو فكراً مجتمعياً لم يتأثر بعد بأجواء الانفتاح والتعاون المزعومة؟
هذه التصرفات، وإن كانت محدودة، تقوّض جهود الحكومات التي سعت إلى مد جسور التواصل، وتجعل الشعوب أكثر حذراً تجاه أي تقارب لا يرتكز على الاحترام المتبادل للقوانين والسيادة.
الرؤية الاستراتيجية: ما وراء المصلحة؟
من الواضح أن الدافع وراء السعي نحو التطبيع من الجانب الإسرائيلي هو في المقام الأول تحقيق مصالح اقتصادية وأمنية، والتحرر من العزلة الدولية المفروضة.
إن التحدي الذي يواجه الدول العربية هو كيفية تحقيق التوازن بين الاستفادة من الفرص الاقتصادية الجديدة وبين الحفاظ على المبادئ والقضايا الجوهرية. إن الاعتماد على أن التقارب الاقتصادي سيؤدي تلقائياً إلى حل القضايا السياسية المعقدة قد يكون رهاناً غير مضمون.
يجب على الأطراف العربية أن تدرك أن الحفاظ على المصالح العليا يتطلب التعامل بحذر شديد، والتمييز بين التعاون الاستراتيجي الذي يخدم المنطقة وبين التنازل عن الحقوق الأساسية. لقد اعتدنا في المنطقة العربية على التباين في المواقف، لكن من الضروري الآن التمييز بوضوح بين من يسعى للسلام المبني على الحق والعدل ومن يسعى لتحقيق أطماع توسعية على حساب الجار.
