الجمعة، 10 نوفمبر 2023

Published نوفمبر 10, 2023 by with 0 comment

«راح تعمروا لبنان غصبن عنكم» — قراءة نقدية في خطابٍ واستعلاءٍ يسيء لبلدٍ يتألم

 

راح تعمرو لبنان غصبن عنكم

 «راح تعمروا لبنان غصبن عنكم» — قراءة نقدية في خطابٍ واستعلاءٍ يسيء لبلدٍ يتألم



شهدت الساحة اللبنانية في الأيام الأخيرة تصريحاتٍ نابية انطوت على احتقارٍ وتحقيرٍ للدول الشقيقة وقياداتٍ عربية، وجاءت على لسان شخصية سياسية محلية أثارت مزيدًا من الجدل والتذمّر. لا يهمّني اسم المتحدث بقدر ما يهمّني جوهر الكلمة وأثرها؛ فالكلمة الطائفيّة المستفزّة والاتهامات الرخيصة لا تُضيف للبلد الذي يعاني سوى مزيدٍ من الانقسام والضعف.


لبنان يمرّ بأزمة مركّبة: انهيار اقتصادي، تآكل مؤسسات، اختلالات سياسية، وتوغّل جماعاتٍ مسلّحة جعلت من القرار الوطني رهينة تأثيرات خارجية. وفي مثل هذا السياق، يصبح التصويب على دولٍ شقيقة أو التهوين من دورها في مثل هذه اللحظات بمثابة خيانة واضحة لمصلحة اللبنانيين.

من المؤسف أن تتكرّر في الخطاب الرسمي أو الإعلامي مواقفٌ تُشبه في نغمتها مَنْ ينتمي إلى منظومات إقليمية أوجدت أزماتٍ في المنطقة. تلك المواقف تعكس ثقلاً أيديولوجياً لا يقدّر حسّ الوطنية ولا يحترم قيمة التضامن العربي. في المقابل، تظل دول الخليج، وفي مقدمها المملكة العربية السعودية، على مرّ التاريخ من أبرز الداعمين للبنان على صعدٍ متعددة، سواءً في المساعدات التنموية أو في الاستجابة للأزمات، وما شهدناه من تأثير لخفض الدعم أو إعادة النظر في العلاقة يؤكد حجم الاعتماد المالي والاقتصادي الذي تربطه بالعلاقات الثنائية.


لا ينبغي أيضاً أن نغفل أن البعض يستغلّ الصراعات الداخلية لإحكام سيطرته، وأن جيوب النفوذ الخارجي — سواء أكانت إيرانية أو غيرها — تعمل على تحويل بعض السياسات اللبنانية إلى ساحة للتنافس الإقليمي. ذلك ما جعَل لبنان ساحة اختبار لولاءاتٍ خارجية، وما أوقع البلد في متاهاتٍ سياسية أضرت بمصالح مواطنيه قبل أن تمسّ سمعة دولٍ شقيقة.


إذا أردنا أن نكون واقعيين: بناء بلدٍ صالحٍ وإعادة بنائه لا يتحقق بالخطابات الانتقائية أو بالهجوم على من أعطى وساهم ودعم في أوقات الحاجة. لا يمكن أن يُبنى لبنان على عداواتٍ مؤدلجة أو على مزايداتٍ طائفية تُقحم بلدًا بكامله في سجالاتٍ لا طائل منها. المطلوب اليوم قيادة وطنية مسؤولة، قادرة على الحوار، وملتزمة بإصلاحاتٍ حقيقية تضع البلد على طريق التعافي.


أدعو من يلمّعون صورَ المحاور الإقليمية أو يتغنّون باحتماءٍ بظلّ دولٍ خارجية أن يتذكروا أصل المصلحة الوطنية: هو شعبٌ منهوبٌ ومتألم يبحث عن فرص عمل، عن كهرباء ومستشفيات وتعليم، عن بيئةٍ آمنة لأطفاله. هذه ليست شعاراتٍ جانبية يمكن التضحية بها، بل قضايا أساسية يجب أن توحّد الخطاب السياسي حتى ينتقل لبنان من دائرة الأزمات إلى مسارات البناء.


وأختم بأن أملاً حقيقياً يبقى معقودًا على عودة النخب الصالحة من أبناء لبنان، الذين لم يبتغوا الأضواء، والذين يمكنهم أن يقودوا بلداً نظيفاً من الفساد ومتحرراً من وصاية الخارج. إنّ لبنان يحتاج اليوم إلى من يقوّي مؤسساته، لا إلى من يفرّق كلماته؛ إلى من يعيد للدولة سيادتها، لا من يحتفي ببناء دولٍ داخل الدولة.


لنَنْهَ حوارَ الإهانة، ولنبدأ حواراً إصلاحياً يضع لبنان في موقعه الطبيعي بين الأشقاء؛ فالإصلاح سبيلاً للكرامة، والكرامة لا تُفرض بالقذف ولا تُستعاد بالإهانة.
Read More
    email this