
الاقتصاد الخليجي بين فوائض النفط والعجز المالي: لماذا لا يظهر الثراء على الأرض؟
على الرغم من أن دول الخليج حققت خلال السنوات الأخيرة فوائد نفطية ضخمة، فإن المشهد المالي لا يعكس هذا الواقع. ديون تتزايد، ضرائب جديدة، خصخصة، وبيع لأصول الدولة… بينما تُطرح أسئلة جوهرية:
أين تذهب كل هذه المليارات من عائدات النفط؟ ولماذا لا تنعكس على قوة وسيادة الاقتصاد الخليجي؟
ففي عام 2023 وحده، شكّلت العائدات النفطية أكثر من 60% من إيرادات دول الخليج، ومع ذلك سجلت أغلب الدول فائضاً شبه صفري، وأحياناً عجزاً واضحاً في الميزانية. هذا التناقض ليس ظرفاً طارئاً، بل نتيجة بنية اقتصادية ومالية ارتبطت بالخارج أكثر مما ارتبطت بالداخل.
لماذا لا ينعكس فائض النفط على الفائض المالي؟
الجواب المباشر – كما يوضحه المختصون – أن جزءاً كبيراً من هذه الفوائض النفطية لا يدخل فعلياً في دورة الاقتصاد المحلي، بل يتجه إلى الخارج في شكل:
- سندات حكومية أمريكية
- استثمارات في صناديق أجنبية
- تمويل مشاريع ومنشآت في الدول الغربية
- ودائع بالدولار تشغّل اقتصادات الآخرين بدل أن تُنمي الاقتصاد الخليجي
وفي الداخل، تظهر نتائج معاكسة تماماً:
تضخم، ارتفاع أسعار، ديون حكومية، تقليص الدعم، وبيع أصول الدولة تحت مسمى الخصخصة.
لكن السؤال الأعمق:
لماذا تسلك دول الخليج هذا المسار أصلاً؟
الإجابة تكمن في خمس ركائز أساسية شكّلت بنية الاقتصاد الخليجي طوال العقود الماضية.
الأسباب الخمسة وراء ضعف انعكاس الثروة النفطية داخلياً
1. الدولار مقابل الحماية: معادلة البترودولار
منذ سبعينيات القرن الماضي، فُرضت معادلة واضحة:
النفط الخليجي يُباع حصراً بالدولار مقابل الحماية الأمريكية وصفقات السلاح.
هذا النظام – البترودولار – يعني ببساطة أن:
- فوائض النفط بالدولار تُعاد تلقائياً إلى الولايات المتحدة
- جزءاً كبيراً منها يُضخ في سندات الخزانة الأمريكية
- ويتم تدوير المال في النظام المالي الغربي وليس الخليجي
وبذلك، يفقد الخليج جزءاً من استقلاله المالي مقابل ضمانات سياسية وأمنية.
حتى اليوم، يعتمد الاقتصاد الخليجي على الاستيراد أكثر من الإنتاج.
فلا توجد قاعدة صناعية كافية، ولا اكتفاء ذاتي، ولا زراعة قوية، ولا تصنيع تكنولوجي حقيقي.
ومع تدفق المليارات من النفط:
- إذا ضُخ المال داخل الاقتصاد المحلي يسبب تضخماً حاداً
- وإذا خرج للخارج، تستفيد منه الاقتصادات الغربية
وهكذا تتحول الثروة النفطية إلى ثروة “عابرة”، لا تصنع اقتصاداً مستقلاً ولا قيمة مضافة محلية.
خلال العقود الماضية، دفعت المؤسسات المالية العالمية – وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدولي – دول الخليج نحو ما يسمى تحرير الاقتصاد، والذي يشمل:
- بيع أصول الدولة
- رفع الضرائب
- تقليص الدعم
- خفض الإنفاق العام
هذه الإجراءات تُسوَّق كـ إصلاح اقتصادي، لكنها في الحقيقة:
تفتح الباب الخلفي لفقدان جزء من السيادة الاقتصادية، وتحويل ملكية الدولة إلى الشركات الأجنبية.
تاريخياً، كان الهدف الغربي واضحاً:
الخليج يجب أن يبقى مستورداً لا منتجاً.
لذلك شُجعت دوله على:
- استيراد التكنولوجيا دون صناعتها
- شراء الأسلحة دون تطوير صناعات الدفاع
- الاستثمار في الغرب بدل الاستثمار في الداخل
- الاعتماد على الشركات الأجنبية بدل بناء قاعدة وطنية مستقلة
فأصبحت النتيجة النهائية:
النفط يُنتج في الخليج… لكن قرار استخدامه وتوجيه فائدته في أيدي الغرب.
حتى حين تتراكم الأموال داخل دول الخليج، فإن إدارتها واستثمارها غالباً ما تتم:
- عبر مؤسسات مالية غربية
- وفق قواعد مالية غربية
- في أسواق وبنوك غربية
وبالتالي:
المال يُجمع هنا… لكنه يُستثمر ويُدار هناك.
الخلاصة: الخليج يموّل العالم… ولا يموّل نهضته
إن استمر الوضع كما هو، سيبقى الخليج:
- ينتج النفط
- ويموّل اقتصادات الدول الكبرى
- بينما يواجه تضخماً وضرائب وبيعاً لأصوله
- ويتحول من “مالك للثروة” إلى “ممَوّل للثروة في الخارج”
فالاختيار اليوم واضح:
إمّا إعادة السيطرة الوطنية على ثروات الخليج،
أو استمرار تمويل العالم مقابل إضعاف الداخل.
0 comments:
إرسال تعليق
تعليقاتكم وملاحظاتكم تسرنا