السبت، 29 نوفمبر 2025

Published نوفمبر 29, 2025 by with 0 comment

سياسة المزاج المتغيّر: هل تتحرك الولايات المتحدة وفق المصالح أم وفق التزاماتها المعلنة؟

 

مقال حواري عميق يكشف سياسة الولايات المتحدة الانقلابية في التعامل مع الحلفاء، مع أمثلة من أوكرانيا والعراق وأفغانستان، وتحليل لأسباب تغيّر المواقف الأميركية وتأثيرها على العالم العربي والدول التي تركتها واشنطن في منتصف الطريق.

سياسة المزاج المتغيّر: هل تتحرك الولايات المتحدة وفق المصالح أم وفق التزاماتها المعلنة؟




تبدو الولايات المتحدة، في نظر كثير من المراقبين، دولة تتحرك في السياسة الخارجية بمنطقٍ يصفه البعض بـ "الولاء المشروط" أو "الدعم المؤقت"، الذي يبقى قائمًا فقط ما دام يحقق المصالح الأميركية المباشرة. وما إن تتبدّل الظروف، حتى تنتقل واشنطن إلى موقع آخر، وتعيد تشكيل تحالفاتها، وقد تترك حلفاءها في منتصف الطريق، تمامًا كما يحدث في لعبة الشطرنج عندما يستغني اللاعب عن قطعة كانت مفيدة قبل بضع نقلات ثم تُصبح عبئًا عليه.

هذا التحول ليس جديدًا، بل يشكل جوهر الاستراتيجية الأميركية منذ عقود. وفيما يلي نقاش تفصيلي لأبرز الأمثلة التي تكشف هذا النمط.


أوكرانيا… عندما تنقلب المعادلات فجأة

لم تكن أوكرانيا يومًا محمية أميركية بالمعنى الكامل، لكنها كانت أداة في الصراع الجيوسياسي بين واشنطن وموسكو.
منذ 2014 قدمت أميركا دعمًا سياسيًا وعسكريًا محدودًا، لكنه كان دائمًا محسوبًا بعناية بحيث لا يتحول إلى التزام مباشر بحماية كييف.

ومع اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا عام 2022، بدا الدعم الأميركي في بدايته ضخمًا، قبل أن يتراجع تدريجيًا مع الضغوط الداخلية الأميركية، ومع مخاوف واشنطن من تحول الصراع إلى حرب طويلة تستنزفها سياسيًا واقتصاديًا.

ومع مرور الوقت بدأ يظهر السؤال الذي يطرحه الأوكرانيون علنًا:
"هل ستتركنا أمريكا عندما تشعر أن الكلفة أصبحت أكبر من الفائدة؟"

هذا السؤال ليس جديدًا — بل تكرر في دول كثيرة قبل أوكرانيا.


العراق… الدعم الذي ينقلب إلى عبء

في العراق، قدمت الولايات المتحدة دعمًا واسعًا لقوات المعارضة العراقية قبل 2003، وروّجت لخطاب إسقاط النظام بوصفه ضرورة أخلاقية وسياسية.
لكن بعد الغزو، واجه العراق واقعًا مختلفًا:

  • فراغ سياسي وأمني كبير

  • صعود قوى مسلحة

  • انهيار مؤسسات الدولة

  • تدخلات إقليمية واسعة

وبدلًا من تحقيق الاستقرار الذي وعدت به واشنطن، بدا أنها تراجعت تدريجيًا وتركت البلد غارقًا في صراعاته، ثم انسحبت تاركة خلفها نظامًا هشًا ومعضلات لا تزال مستمرة حتى اليوم.

هنا يصبح السؤال منطقيًا:
هل كان الهدف الأميركي فعلًا "بناء عراق جديد"؟
أم كان الغزو ذاته هو الهدف، والباقي تفاصيل؟


أفغانستان… درس الانسحاب الأشد قسوة

إذا كان ثمة مثال يختصر السياسة الانقلابية الأميركية، فهو أفغانستان.
عشرون عامًا من الدعم العسكري والسياسي للحكومة الأفغانية، ثم انسحاب مفاجئ في 2021، أدى إلى انهيار الدولة خلال أيام فقط.

السبب؟
القرار الأميركي اعتبر أن "الكلفة أصبحت أكبر من المكسب"، وأن المعركة لم تعد تخدم مصالح واشنطن الاستراتيجية.

أما الحليف الأفغاني، فقد وجد نفسه أمام واقع مرير:
دعم أمريكي استمر عقدين ثم انتهى بضغطة زر.


الدول التي تضررت من هذا النمط

البلدان التي شعرت بثقل التراجع الأميركي كثيرة، منها:

  • فيتنام الجنوبية (1975)

  • الصومال بعد المهمة العسكرية الأميركية ثم الانسحاب

  • مصر التي تلقت دعمًا واسعًا في التسعينات قبل أن يتراجع الدور الأميركي تدريجيًا

  • قوات سوريا الديمقراطية التي تلقت دعماً ثم واجهت انسحابات أميركية غير متوقعة عام 2019

جميعها أمثلة على أن التحالف مع واشنطن ليس ضمانة طويلة المدى، بل علاقة تخضع للمراجعة كلما تغيّرت المصالح.


لماذا تنقلب أمريكا على حلفائها؟

الأسباب المشتركة تشمل:

1. تغير أولويات الأمن القومي الأميركي

عندما يصبح الصراع غير ذي جدوى، أو يتحول إلى عبء، تتراجع واشنطن سريعًا.

2. الضغوط الداخلية الأميركية

الرأي العام، الكونغرس، والاقتصاد… كلها عناصر تغيّر اتجاهات السياسة فجأة.

3. إعادة رسم الخرائط الجيوسياسية

تتعامل الولايات المتحدة مع العالم وفق مبدأ “من يفيدني الآن؟”، وليس “من كان حليفي بالأمس؟”.

4. الخوف من التورط العسكري طويل الأمد

تجارب العراق وأفغانستان جعلت واشنطن أكثر حساسية تجاه أي تدخل يشبه "المستنقع".


وكيف يتعامل العالم العربي مع هذه المزاجية؟

الدول العربية عانت، وربما أكثر من غيرها، من هذا النمط المتقلب.
فالسياسة الأميركية في المنطقة كثيرًا ما بدت كمن يتحرك تارةً بدافع المصالح النفطية، وتارة بدافع تحجيم نفوذ دول أخرى، وتارة تحت تأثير الضغوط الداخلية.

النتيجة؟
أن العالم العربي أصبح يتعامل بحذر شديد مع واشنطن، مدركًا أن:

الدعم الأميركي ليس دائمًا،
والالتزام الأميركي ليس مضمونًا،
والتحالف الأميركي لا يعني الولاء.

وهذا ما دفع عدة دول عربية في السنوات الأخيرة إلى تبني سياسة "تنويع الحلفاء" بدل الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة، وهو تحوّل استراتيجي مهم في المنطقة.


خاتمة نقاشية… لمن يبقى الولاء؟

السؤال الذي يطرح نفسه اليوم في كل عاصمة عربية وغربية هو:
هل الولايات المتحدة شريك أم ظرف؟
حليف أم فرصة؟
صديق طويل المدى أم قوة تبحث عن مصالحها فقط؟

الواقع يشير إلى أن السياسة الأميركية ليست "خيانة"، بل براغماتية صارمة، ترى العالم كمساحة مصالح متغيرة، لا مساحة التزامات ثابتة.
وما لم تُدرك الدول هذا القانون، فإنها ستواصل الوقوع في الصدمة نفسها كل مرة.

    email this

0 comments:

إرسال تعليق

تعليقاتكم وملاحظاتكم تسرنا