
الاستراتيجية الأمريكية الجديدة: كيف أعاد ترامب تعريف دور الولايات المتحدة في العالم؟
من المزاج إلى الوثيقة الرسمية
في السابق، كان يُنظر إلى قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على أنها قرارات مزاجية أو شخصية، يتحكم بها أسلوبه الخاص في الحكم. إلا أن ما تغيّر اليوم هو أن تلك التوجهات لم تعد مجرد ممارسات فردية، بل تحولت إلى استراتيجية أمريكية رسمية مكتوبة، أُقرت في الخامس من ديسمبر الماضي، وأصبحت إطارًا عامًا تلتزم به مؤسسات الدولة الأمريكية كافة: وزارة الخارجية، وزارة الخزانة، البنتاغون، الكونغرس، وأجهزة الاستخبارات.
هذه الوثيقة وضعت الخطوط العريضة، بينما تُترك التفاصيل لكل مؤسسة لترسم الجزء الخاص بها، وفق اختصاصها، ضمن رؤية موحدة.
أمريكا أولًا: نهاية الليبرالية وبداية الدولة القومية
تقوم استراتيجية ترامب الجديدة على إعلان نهاية المرحلة الليبرالية، وبداية مرحلة الدولة القومية.
وقد أعاد ترامب إحياء شعار «أمريكا أولًا»، وهو شعار تاريخي استخدمه سياسيون أمريكيون سابقًا، ديمقراطيون وجمهوريون، خاصة قبل الحرب العالمية الأولى، وكان معناه واضحًا:
لا تدخل أمريكا حربًا أو تحالفًا إلا إذا كان ذلك يخدم مصالحها المباشرة.
وبناءً على هذا المبدأ، تؤكد الاستراتيجية الجديدة أنه لا يوجد حليف دائم للولايات المتحدة، بل تحالفات مؤقتة تُبنى وتُفك وفق المصالح. إذا التقت المصالح اقتربت أمريكا، وإذا انتهت ابتعدت دون التزام أخلاقي أو سياسي طويل الأمد.
تراجع المواجهة مع روسيا والصين
على عكس سياسة الرئيس السابق جو بايدن، التي ركزت على مواجهة روسيا والصين، تشير الاستراتيجية الجديدة إلى تراجع هذا النهج.
فالولايات المتحدة لن تنخرط بعد الآن في حروب بعيدة تحت شعار «مكافحة الإرهاب»، خاصة في الشرق الأوسط، بل ستعيد تركيزها على محيطها الجغرافي المباشر: كندا وأمريكا الجنوبية.
ولهذا لم تكن تصريحات ترامب حول كندا، ودعوته لضمها، أو تحركاته تجاه فنزويلا وكولومبيا، مجرد خطابات عابرة، بل جزءًا من تصور استراتيجي أوسع.
أمريكا الجنوبية: الخطر الصامت
لطالما اعتبرت الولايات المتحدة دول أمريكا الجنوبية «باحتها الخلفية».
هذه الدول تمتلك:
-
كثافة بشرية هائلة
-
أيدٍ عاملة رخيصة وماهرة
-
موارد طبيعية ضخمة
ويرى صناع القرار في واشنطن أن تحوّل هذه الدول إلى قوى صناعية واقتصادية مستقلة قد يشكّل تهديدًا مباشرًا للاقتصاد الأمريكي، لذلك تسعى أمريكا تقليديًا إلى إضعافها عبر إشغالها بصراعات داخلية.
وتاريخ دعم الولايات المتحدة لثوار «الكونترا» في كولومبيا وفنزويلا، وفضيحة «إيران–كونترا»، يوضح كيف تجاوزت واشنطن حتى الكونغرس، ووصل الأمر إلى تمويل تلك الجماعات عبر تجارة المخدرات، بهدف إضعاف الحكومات المحلية.
الهجرة والمخدرات: الذريعة الحقيقية
يستخدم ترامب ملف الهجرة والمخدرات كذريعة للتدخل في شؤون دول أمريكا اللاتينية، لكن جوهر القضية أعمق بكثير.
فالهدف الحقيقي هو الهيمنة الاقتصادية والسياسية، خاصة على دول مثل فنزويلا، التي تملك أكبر احتياطي نفطي في أمريكا الجنوبية.
الرسوم الجمركية: استراتيجية لا بلطجة
ما بدا للكثيرين حرب رسوم جمركية عشوائية، أو ممارسة بلطجة اقتصادية، اتضح أنه جزء أساسي من استراتيجية الأمن القومي.
فالولايات المتحدة تعاني من دين عام تجاوز 36 تريليون دولار، معظمها نتيجة الحروب.
ومن خلال فرض رسوم جمركية مدروسة:
-
حمت أمريكا صناعاتها الداخلية
-
أنعشت الاقتصاد المحلي
-
خفّضت العجز التجاري
-
وساهمت في تقليص الدين
الصناعات التي لا يمكن الاستغناء عنها خُفّضت عليها الرسوم، بينما فُرضت ضرائب أعلى على الصناعات المنافسة.
أوروبا: انهيار حضاري متوقّع
توقعت الوثيقة الأمريكية حدوث انهيار حضاري في أوروبا نتيجة السياسات الاقتصادية الفاشلة وأزمة الهوية المرتبطة بالهجرة.
وترى الاستراتيجية أن التغير الديمغرافي والثقافي سيقود إلى تآكل الهوية الوطنية الأوروبية، ما يبرر دعم الولايات المتحدة للتيارات اليمينية المناهضة للهجرة.
الديون والحروب: الانسحاب بدل المواجهة
أشارت الوثيقة إلى أن الولايات المتحدة أنفقت بعد أحداث 11 سبتمبر نحو 4.4 تريليون دولار على الحروب دون عائد حقيقي.
لذلك أصبح الانسحاب من الحروب وعدم خوض نزاعات جديدة جزءًا أساسيًا من الاستراتيجية لتقليص الدين.
وهذا الانسحاب سيجبر دولًا مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والفلبين على إعادة ترتيب علاقاتها مع الصين، وهو أمر تقبله واشنطن طالما لا يهدد أمنها المباشر.
الشرق الأوسط: الانسحاب الذي فشل
رغم أن الفكر الاستراتيجي منذ عهد أوباما دعا للانسحاب من الشرق الأوسط، فإن هذا الانسحاب:
-
فتح الباب أمام تمدد الصين
-
ومكّن روسيا من دخول سوريا والمنطقة
-
وخلق فراغًا استراتيجيًا كبيرًا
لذلك عادت أمريكا للتركيز على الشرق الأوسط، لا باعتباره ساحة حروب، بل باعتباره:
-
مصدر الطاقة الأهم عالميًا
-
عقدة طرق التجارة الدولية
إسرائيل: الوكيل الإقليمي
في ظل رغبة ترامب بعدم خوض حروب مباشرة، وجد ضالته في إسرائيل.
فأطلق لها حرية الحركة، ودعمها سياسيًا وعسكريًا، لتقوم بدور الضابط الإقليمي، بما يخدم المصالح الأمريكية دون تدخل مباشر.
ويرى ترامب أن دولًا مثل السعودية، وتركيا، ومصر، والإمارات تشكل توازنًا إقليميًا مهمًا، لكنه يواجه صعوبة في دمج الجميع ضمن الاتفاقيات الإبراهيمية، خاصة مع الرفض السعودي.
خلاصة: استراتيجية أزمة لا هيمنة
ما نراه اليوم ليس فوضى، بل إعادة تموضع أمريكي فرضته أزمة الديون وانتهاء الأحادية القطبية.
الولايات المتحدة لم تعد قادرة على حكم العالم بالقوة، فاختارت إدارة النفوذ بالمصالح، والاستثمار بدل الحرب، والضغط الاقتصادي بدل التدخل العسكري.
هذه الاستراتيجية مرشحة للاستمرار لسنوات قادمة، حتى وإن تغير الرئيس، لأنها تعكس واقعًا جديدًا لم تعد أمريكا قادرة على تجاهله.








