ما تفرّقه السياسة يجمعه كأس العرب
حين تتقدّم الرياضة حيث تتراجع السياسة
في عالم تمزّقه التحالفات المتقلّبة، والصراعات الإعلامية، والنزاعات التي لا تهدأ، يبرز حدثٌ استثنائي قادرٌ على اختراق كل الحواجز: كأس العرب.
هذا الحدث لم يعد مجرّد منافسةٍ كروية؛ بل تحوّل إلى مساحة نقية يجتمع فيها العرب بعيداً عن تعقيدات الأجندات السياسية وصخب الاتهامات المتبادلة. في لحظة الدخول إلى الملعب، تختفي لغة الخلاف، وتنهض لغة الانتماء الواحد، وكأن الهوية العربية التي مزّقتها السنوات تتذكّر نفسها فجأة.
أولاً: كأس العرب… أكثر من بطولة
على الرغم من أنّ البطولة تبدو في ظاهرها رياضية بحتة، فإنّ ما يكمن خلفها أبعد بكثير.
فهي الحدث العربي الوحيد الذي يجمع تحت رايته دولاً تختلف رؤاها السياسية، وتتباين تحالفاتها، بل وتتنازع أحياناً في العلن أو الخفاء.
في المدرجات تختلط الأعلام من العراق إلى المغرب، ومن الخليج إلى الشام، وفي الشاشات تتوحّد أصوات المعلّقين والجماهير، ويولد شعورٌ عفوي بأنّ ما يجمع هذه الشعوب أكبر بكثير ممّا يفرّقها.
ثانياً: فرصة لتقريب البعداء… حين يصبح الملعب مساحة مصالحة
وربما لا توجد مناسبة اليوم يمكنها أن تجمع شعوباً تحمل آلاماً مختلفة كما تفعل هذه البطولة.
فالعراق الذي أنهكته الحروب، والسودان المثقل بجراحه، وفلسطين الأسيرة وجراحها التي تنزف كل يوم… جميعها تجد في كأس العرب مساحةً للتنفّس، مساحةً تقول فيها الشعوب: نحن ما زلنا هنا، وما زلنا قادرين على الفرح رغم الألم.
في المقابل، هناك دول تُتَّهم ظلماً أو مبالغةً بأنها سببٌ في كثير مما يجري في المنطقة مثل مصر والإمارات والسعودية. هذه الاتهامات — سواء كانت سياسية أو إعلامية — تُطفئها أجواء البطولة، حين يظهر أبناء هذه الدول جنباً إلى جنب مع أبناء الدول المتألمة في المدرجات، يتبادلون الهتاف نفسه، وينشدون الأغنية ذاتها، ويصفّقون للّعب الجميل مهما كان لون القميص.
هذا المشهد البسيط يفتح نافذة صغيرة نحو حقيقة أكبر:
الناس أبسط من السياسة، وأقرب لبعضهم ممّا تتخيّله الخطابات المتشنجة.
ثالثاً: كيف يمكن استغلال البطولة لرصّ الصف العربي؟
إنّ بطولة بهذا الزخم ليست مجرد لحظة فرح مؤقت، بل فرصة للتأسيس لمرحلة جديدة إن أحسن صانعو القرار استثمارها. ويمكن البناء عليها من خلال:
1. تأسيس مبادرات «دبلوماسية رياضية»
تستثمر الدول لحظة التقارب هذه لعقد مؤتمرات شبابية، ولقاءات جماهيرية، وحوارات ثقافية مرافقة للبطولة، يكون هدفها تقريب المواقف وإذابة الجليد بين المجتمعات.
2. خلق مساحات إعلامية مشتركة
إعلام عربي واحد، يغطي البطولة بروح مشتركة بعيداً عن التحريض والتشويه، سيعيد الثقة بين الشعوب، ويفتح الباب لخطابٍ إعلامي عربي أقلّ حدّة.
3. استثمار وجود الجماهير من الدول المتخاصمة
في لحظة يلتقي الجمهور العراقي مع السعودي، والسوداني مع المصري، والجزائري مع الإماراتي… يمكن للمنظمين والدول أن يسهّلوا لقاءات رمزية ورسائل مشتركة تظهر روح الوحدة.
4. دعم الرياضة في الدول المنكوبة
تخصيص مبادرات لدعم الرياضة في فلسطين والسودان والعراق يعيد لهذه الشعوب الثقة بأنّ العالم العربي لا يزال يقف إلى جانبها.
رابعاً: إسكات الأبواق المضلِّلة… حين تنتصر الصورة على الدعاية
لا شيء يسقط الحملات الإعلامية المضللة مثل مشاهد الأخوّة الحقيقية.
حين تُرفع الأعلام جنباً إلى جنب، ويحتفل العرب بانتصار فريقٍ عربي أيّاً كان اسمه، تصبح الخطابات التي تحاول إشعال الخصومة بلا قيمة، وتفقد تأثيرها أمام مشهدٍ واقعي يراه ملايين الناس مباشرةً.
فقد اعتادت بعض المنابر استغلال كل حدث لتأجيج الخلافات وتوسيع الفجوات، لكن كأس العرب يُربك هذه المنابر، لأنه يقدم دليلاً عملياً على أن الشعوب لا تحمل كل تلك الضغائن التي تحاول السياسة والإعلام زرعها.
خامساً: هل تستطيع الرياضة أن تقوم بتأثير سحري؟
الرياضة ليست عصاً سحرية، لكنها تمتلك قدرة خاصة لا تملكها السياسة ولا الاقتصاد ولا الإعلام.
إنها لغة عالمية تقوم على الفطرة: اللعب، الحماس، الانتصار، الفخر، النشيد، العلم… كلها مفردات تتجاوز الخطابات الرسمية وتلمس قلب الإنسان مباشرةً.
قد لا تُنهي الرياضة الحروب، ولا توقف الخلافات الجيوسياسية، لكنها قادرة على:
خلق حالة وجدانية مشتركة
إعادة تعريف الآخر بشكل إيجابي
تقليل التوتر بين الشعوب
فتح أبواب جديدة للحوار
تعزيز الشعور بالانتماء للقضية العربية الكبرى
وهذا بحد ذاته إنجاز هائل.
خاتمة: حين يهتف العرب بصوت واحد… يتغيّر شيء في العالم
كأس العرب ليس مجرد بطولة تُنقل على الشاشات، بل هو اختبار حيّ لفكرة:
هل لا يزال بإمكان العرب أن يجتمعوا على شيءٍ واحد؟
والجواب — كما تثبته كل نسخة — هو نعم، وبقوة.
قد تُفرّق السياسة الشعوب، وقد تُعمّق الخلافات الأبواب الموصدة، لكن الملعب يستطيع في تسعين دقيقة أن يفعل ما لا تفعله سنوات من الاجتماعات والبيانات الرسمية.
لهذا، فإن كأس العرب ليس بطولة فقط، بل فرصة ذهبية لإحياء الشعور العربي الواحد، ولإرسال رسالة للعالم تقول:
رغم الخلافات… ورغم الجراح… نحن أمّة واحدة، ومصير واحد، وأمل واحد.

0 comments:
إرسال تعليق
تعليقاتكم وملاحظاتكم تسرنا