
قراءة في مشهد إقليمي مضطرب: هل نحن أمام موجة فوضى جديدة؟
شهد المشهد السياسي الإقليمي خلال اليومين الماضيين تطورات متسارعة ومقلقة تحيط بمنطقتنا العربية، وتستدعي قدراً عالياً من الانتباه والحذر.
شهدنا تطورات لافتة في جنوب اليمن، إلا أن هذه التطورات ما تزال في بداياتها، ولم تنضج بعد بالشكل الذي يسمح بقراءة دقيقة أو استخلاص نتائج واضحة. الأمر ذاته ينطبق على ما يجري في “أرض الصومال” (صوماليالاند)، ولا سيما بعد الحديث عن اعتراف إسرائيلي بها، وهو تطور خطير قد يدفع المنطقة نحو مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار.
لكن الساحة الأكثر وضوحاً، والأغنى بالمعطيات، هي الساحة السورية، التي تشهد في الآونة الأخيرة مؤشرات مقلقة تنذر بعودة الاضطراب بعد فترة من الهدوء النسبي.
خلال فترة زمنية قصيرة، عاد تنظيم “داعش” إلى النشاط بشكل مفاجئ داخل سوريا، بعد غياب دام قرابة عام منذ سقوط النظام السوري السابق. هذا النشاط تجلّى في استهداف مباشر للقوات الأمريكية، أسفر عن مقتل جنديين وإصابة آخرين، إضافة إلى تفجير استهدف أحد المساجد يوم الجمعة الماضية. هذا التصعيد يطرح تساؤلاً جوهرياً: لماذا عاد “داعش” إلى الواجهة الآن؟ وما الذي حرّك هذا التنظيم في هذا التوقيت تحديداً؟
بالتوازي، نشطت فلول النظام السابق في منطقة اللاذقية، ذات الغالبية العلوية، واندلعت مواجهات بينها وبين الجيش السوري. كما شهدنا اشتباكات مباشرة بين الجيش السوري وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تسيطر على مساحات واسعة من الأراضي السورية، وتمتلك تنظيماً عسكرياً وتسليحاً وتدريباً متقدماً بدعم أمريكي، خصوصاً خلال الحرب على داعش منذ عام 2014.
هذه القوات، كما هو معلوم، تمثل المكوّن الكردي الذي يسعى منذ عقود إلى تحقيق حكم ذاتي أو كيان مستقل، مستنداً إلى امتداده الجغرافي بين سوريا والعراق وإيران وتركيا. وتبقى تركيا الطرف الأكثر عداءً لأي مشروع انفصالي كردي، خشية انتقال العدوى إلى الداخل التركي.
في الآونة الأخيرة، شهدنا تهدئة نسبية بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، بعد مفاوضات مع عبد الله أوجلان، أفضت إلى هدنة وإلقاء السلاح من بعض الفصائل، مع توقعات بإمكانية التوصل إلى تسوية قد تشمل الإفراج عنه مستقبلاً.
كل هذه التحركات تعيد طرح سؤال الاستقرار الإقليمي: هل هناك محرك واحد لهذه الأحداث؟ أم أننا أمام تفاعلات متفرقة بلا رابط واضح؟
من الصعب الربط بين ما يجري في اليمن وسوريا وصوماليالاند عبر طرف واحد فقط. فالعلاقة بين الأكراد، وداعش، والعلويين، والدروز، لا يمكن اختزالها في جهة واحدة. كما أن إعلان إسرائيل اعترافها بأرض الصومال، ودفع حكومة الإقليم للمطالبة باعترافات دولية أوسع، يشكل سابقة خطيرة، خاصة في ظل رفض جامعة الدول العربية لذلك، باعتبار الإقليم جزءاً لا يتجزأ من جمهورية الصومال.
في سوريا، تلوح في الأفق بوادر فوضى محتملة. فالاتفاق المعلن بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية، والذي ينص على اندماج هذه القوات ضمن الجيش السوري خلال مهلة ثلاثة أشهر تنتهي في مارس المقبل، لم يشهد أي تقدم فعلي حتى الآن. لا توجد خطوات انتقالية، ولا مؤشرات على نية حقيقية للتنفيذ.
المرجح أن الأكراد غير مستعدين للتخلي عن المكاسب التي حققوها، بل يطالبون بحكم ذاتي، وهو ما يتقاطع مع مطالب مماثلة صدرت عن قيادات درزية، مثل حكمت الهجري، الذي دعا العلويين أيضاً للمطالبة بالحكم الذاتي، عقب المواجهات في الساحل السوري.
إذا جمعنا هذه المطالب، نجد أن أبرز مكونات المجتمع السوري – الأكراد، العلويون، الدروز – تتجه إما نحو الحكم الذاتي أو الانفصال، وهو ما يشكل وصفة كلاسيكية للفوضى. ورغم أن سيناريو الانفصال يبدو صعباً للغاية، نظراً لغياب الاعتراف الدولي وصغر الكيانات المحتملة، إلا أن مجرد طرحه يفتح الباب أمام صراعات داخلية خطيرة.
أي تدخل تركي محتمل سيقابَل برفض إسرائيلي، وفي حال تفجر الفوضى، فإن إسرائيل مرشحة للتوسع أكثر داخل الأراضي السورية، كما فعلت عقب سقوط النظام السابق، بذريعة حماية أمنها وحدودها. وقد يتطور هذا الخطاب لاحقاً ليشمل “حماية” الدروز أو الأكراد، ما يزيد الضغط على الإدارة السورية الجديدة.
ورغم محاولات دفع إسرائيل نحو اتفاق سلام مع سوريا، بدعم من إدارة ترامب، فإن إسرائيل بدت الطرف المتردد، بل صعّدت من عملياتها العسكرية داخل سوريا، وواصلت قصفها، مستهدفة البنية العسكرية السورية بشكل كامل، بما في ذلك الأسلحة الثقيلة والمتوسطة وحتى القطع البحرية في ميناء طرطوس، بهدف حرمان الجيش السوري من أي عنصر تفوق.
دول الخليج، من جهتها، لا ترغب في اندلاع فوضى جديدة في المنطقة، لكنها في الوقت نفسه لن تدعم حرباً أهلية، ولن تسلّح أطرافاً متنازعة داخل دولة واحدة، لأن أي صراع داخلي سيفتح الباب أمام تدخلات إقليمية من إيران وتركيا وإسرائيل، ويحوّل سوريا إلى ساحة صراع مفتوح.
المشهد الحالي يعيد إلى الأذهان سيناريو “الربيع العربي”، حين تمدد النفوذ الإيراني عبر الهلال الممتد من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان. اليوم، تتكرر الفكرة ولكن بأدوات مختلفة، حيث تشتعل بؤر التوتر حول المملكة العربية السعودية، بعد سنوات من العمل على تحقيق محيط إقليمي مستقر.
من يقف وراء ذلك؟ هل هي إسرائيل؟ الولايات المتحدة؟ إيران؟ أم تفاهمات غير معلنة بين أكثر من طرف؟ حتى الآن، الصورة غير مكتملة، والخيوط لم تتضح بعد.
ما يمكن الجزم به أن تزامن هذه الأحداث ليس صدفة، فالصدفة نادرة في عالم السياسة. قد تحدث في مكان واحد، لكن أن تتكرر في عدة ساحات في توقيت واحد، وبشكل يؤثر مباشرة على أمن المنطقة، فهذا يستدعي قراءة أعمق وانتظار ما ستكشفه الأيام القادمة.
الأيام المقبلة وحدها كفيلة بإظهار الصورة كاملة، وكشف ما إذا كنا أمام سيناريو فوضى مُدبّر، أم مجرد تفاعلات متزامنة ستنتهي عند حدودها.
0 comments:
إرسال تعليق
تعليقاتكم وملاحظاتكم تسرنا